فصل: تفسير الآية رقم (138)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا ببَني إسْرَائيلَ البحر‏}‏ شروع بعد انتهاء قصة فرعون في قصة بني إسرائيل وشرح ما أحدثوه بعد أن من الله تعالى عليهم بما من واراهم من الآيات ما أراهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه من اليهود بالمدينة فإنهم جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى عليه السلام وإيقاظاً للمؤمنين أن لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم الله تعالى عليهم فإن بني إسرائيل وقعوا فيما وقعا لغفلتهم عما من الله تعالى به عليهم، وجاوز بمعنى جاز وقرىء ‏{‏جوزنا‏}‏ بالتشديد وهو أيضاً بمعنى جاز فعدى بالباء أي قطعنا البحر بهم، والمراد بالبحر بحر القلزم‏.‏

وفي «مجمع البيان» أنه نيل مصر وهو كما في «البحر» خطأ، وعن الكلبي أن موسى عليه السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكراً لله تعالى ‏{‏فَأَتَوْا‏}‏ أي مروا بعد المجاوزة‏.‏

‏{‏عَلَى قَوْم‏}‏ قال قتادة‏:‏ كانوا من لخم اسم قبيلة ينسبون كما صححه ابن عبد البر إلى لخم بن عدي بن عمرو بن سبا، وقيل‏:‏ كانوا من العمالقة الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم‏.‏

‏{‏يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَام لَهُمْ‏}‏ أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها، وكانت كما أخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن ابن جريج تماثيل بقر من نحاس، وهو أول شأن العجل، وقيل‏:‏ كانت من حجارة، وقيل‏:‏ كان بقراً حقيقة وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏يعكفون‏}‏ بكسر الكاف ‏{‏قَالُوا‏}‏ عندما شاهدوا ذلك ‏{‏يَا مُوسَى اجعل لَنَا إلَهاً‏}‏ مثالاً نعبده ‏{‏كَمَا لَهُمْ ءَالهَةٌ‏}‏ الكاف متعلقة بمحذوف وقع صفة لإلها و‏{‏ما‏}‏ موصولة و‏{‏لهم‏}‏ صلتها و‏{‏آلهة‏}‏ بدل من الضمير المستتر فيه، والتقدير اجعل لنا إلها كائناً كالذي استقر هو لهم‏.‏

وجوز أبو البقاء أن تكون ما كافة للكاف، ولذا وقع بعدها الجملة الإسمية وأن تكون مصدرية، ولهم متعلق بفعل أي كما ثبت لهم ‏{‏قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ تعجب عليه السلام من قولهم هذا بعدما شاهدوه من الآية الكبرى والبينة العظمى فوصفهم بالجهل على أتم وجه حيث لم يذكر له متعلقاً ومفعولاً لتنزيله منزلة اللازم أو لأن حذفه يدل على عمومه أي تجهلون كل شيء فدخل فيه الجهل بالربوبية بالطريق الأولى، وأكد ذلك بأن، وتوسيط قوم وجعل ما هو المقصود بالأخبار وصفاً له ليكون كما قال العلامة كالمتحقق المعلوم وهذه كما ذكر الشهاب نكتة سرية في الخبر الموطىء لادعاء أن الخبر لظهور أمره وقيام الدليل عليه كأنه معلوم متحقق فيفيد تأكيده وتقريره ولولاه لم يكن لتوسيط الموصوف وجه من البلاغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ هَؤُلاَء‏}‏ أي القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام ‏{‏مُتَبَّرٌ‏}‏ أي مدمر مهلك كما قال ابن عباس ‏{‏مَا هُمْ فيه‏}‏ من الدين يعني يدمر الله تعالى دينهم الذي هم عليه على يدي ويهلك أصنامهم ويجعلها فتاتاً ‏{‏وباطل‏}‏ أي مضمحل بالكلية، وهو أبلغ من حمله على خلاف الحق ‏{‏مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي ما استمروا على عمله من عبادتها وإن قصدوا بذلك التقرب إلى الله تعالى وأن المراد أن ذلك لا ينفعهم أصلاف، وحمل ‏{‏ما كانوا يعملون‏}‏ على الأصنام لأنها معمولة لهم خلاف الظاهر جداً، والجملة تعليل لإثبات الجهل المؤكد للقوم، وفي إيقاع اسم ازشارة كما في «الكشف» أن اسم الإشارة بعد إفادة الإحضار وأكمل التمييز يفيد أنهم أحقاء بما أخبر عنه به بواسطة ما تقدم من العكوف، والتقديم يؤذن بأن حال ما هم فيه ليست غير التبار وحال عملهم ليست إلا البطلان فهم لا يعدونهما فهماً لهم ضربة لازب‏.‏

وجوز أبو البقاء أن يكون ‏{‏ما هم فيه‏}‏ فاعل متبر لاعتماده على المسند إليه وهو في نفسه مساً ولاحتمال أن يكون ما هم فيه مبتدأ ومتبر خبر له أو ارجح منه إلا أن المقام كما قال القطب وغيره اقتضى ذلك فليفهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

‏{‏قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغيكُمْ إلَهاً‏}‏ قيل‏:‏ هذا هو الجواب وما تقدم مقدمة وتمهيد له، ولعله لذلك أعيد لفظ له‏:‏ وقال شيخ الإسلام‏:‏ هو شروع فـ بيان شؤون الله تعالى الموجبة لتخصيص العبادة به سبحانه بعد بيان أن ما طلبوا عبادته مما لا يمكن طلبه أصلاً لكونه هالكاً باطلاً أصلاً ولذلك وسط بينهما قال مع كون كل منهما كلام موسى عليه السلام، وقال الشهاب‏:‏ أعيد لفظ ‏{‏قال‏}‏ مع اتحاد ما بين القائلين لأن هذا دليل خطابي بتفضيلهم على العالمين، ولم يستدل بالتمانع العقلي لأنهم عوام انتهى، وفي إقامة برهان التمانع على الوثنية القائلين ‏{‏ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ والمجيبين إذا سئلوا من خلق السموات والأرض بخلقهن الله خفاء، والظاهر إقامته على التنويه كما لا يخفى، والاستفهام للإنكار وانتصاب ‏{‏غير‏}‏ على أنه مفعول أبغيكم وهو على الحذف والإيصال، والأصل أبغى لكم، وعلى ذلك يخرج كلام الجوهري وإن كان ظاهره أن الفعل متعد لمفعولين والهاء تمييز، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به لأبغي وغير صفة له قدمت فصارت حالاً، وأياً ما كان فالمقصود هنا اختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكار الاختصاص، والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبوداً ‏{‏وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين‏}‏ أي عالمي زمانكم أو جميع العالمين، وعليه يكون المراد تفضيلهم بتلك الآيات لا مطلقاً حتى يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يدخلون في المفضل عليهم بوجه بل هم خارجون عن ذلك بقرينة عقلية، والجملة حالية مقررة لوجه الإنكار، أي والحال أنه تعالى خص التفضيل بكم فأعطاكم نعماً لم يعطها غيركم، وفيه تنبيه على ما صنعوا من سوء المعاملة والمقابلة حيث قابلوا التفضل بالتفضيل والاختصاص بأن قصدوا أن يشركوا به أخس مخلوقاته؛ وهذا الاختصاص مأخوذ من معنى الكلام وإلا فليس فيه ما يفيد ذلك، وتقديم الضمير على الخبر لا يفيده وإن كان اختصاصاً آخر على ما قيل، أي هو المخصوص بأنه فضلكم على من سواكم، وجوز أبو البقاء كون الجملة مستأنفة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏141‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ أنجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَونَ‏}‏ بإهلاكهم وتخليصكم منهم، وإذ إما مفعول به لاذكروا محذوفاً بناءً على القول بأنها تخرج عن الظرفية أي اذكروا ذلك الوقت ويكون ذلك كناية عن ذكر ما فيه وإما ظرف لمفعول اذكروا المحذوف أي اذكروا صنيعنا معكم في ذلك الوقت، وهو تذكير من جهته تعالى بنعمته العظيمة وقرىء ‏{‏نجيناكم‏}‏ من التنجية، وقرأ ابن عامر ‏{‏أَنجَاكُمْ‏}‏ فيكون من مقول موسى عليه السلام، وقال بعضهم‏:‏ إنه على قراءة الجمهور أيضاً كذلك على أن ضمير أنجنا لموسى وأخيه عليهما السلام أولهما ولمن معهما أوله وحده عليه السلام مشيراً بالتعظيم إلى تعظيم أمر الإنجاء وهو خلاف الظاهر، وقيل‏:‏ إنه من كلام الله تعالى تتميماً لكلام موسى عليه السلام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 53‏]‏ بعد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذى جَعَل لَكُمُ الارض مَهْداً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 53‏]‏ وهو كالتفسير لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ فَضَّلَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 140‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسُومُونَكُمْ العذاب‏}‏ أي يولونكم ذلك ويكلفونكم إياه إما استئناف بياني، كأنه قيل‏:‏ ما فعل بهم أو مم أنجوا‏؟‏ فأجيب بما ذكر، وإما حال من ضمير المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما معاً لاشتماله على ضميرهما‏.‏ وقوله عز اسمه‏:‏ ‏{‏يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ‏}‏ بدل من يسومونكم مبين له، ويحتمل الاستئناف أيضاً ‏{‏وَفِى ذلكم‏}‏ الإنجاء أو سوء العذاب ‏{‏بَلاء‏}‏ نعمة أو محنة، وقيل‏:‏ المراد به ما يشملهما ‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي مالك أموركم ‏{‏عظِيمٌ‏}‏ لا يقادر قدره‏.‏ وفي الآية التفات على بعض ما تقدم، ثم إن هذا الطلب لم يكن كما قال محيي السنة البغوي عن شك منهم بوحدانية الله تعالى وإنما كان غرضهم إلهاً يعظمونه ويتقربون بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة وكان ذلك لشدة جهلهم كما أذنت به الآيات، وقيل‏:‏ إن غرضهم عبادة الصنم حقيقة فيكون ذلك ردة منهم، وأياً ما كان فالقائل بعضهم لا كلهم، وقد اتفق في هذه الأمة نحو ذلك فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي واقد الليثي ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة حنين فمر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم ويعكفون حولها يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبحان الله» وفي رواية «الله أكبر» هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام ‏{‏اجعل لنا إلها كما لهم آلهة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم ‏"‏ وأخرج الطبراني وغيره من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده

«قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ونحن ألف ونيف ففتح الله تعالى مكة وحنيناً حتى إذا كنا بين حنين والطائف في أرض فيها سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط فكانت تعبد من دون الله فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم صرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها فقال له رجل‏:‏ يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها السنن قلتم والذي نفس محمد بيده كما قالت بنو إسرائيل ‏{‏اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏» وفي هذا الخبر تصريح بأن القائل رجل واحد، ولعل ذلك كان عن جهل يعذر به ولا كون به كافراً وإلا لأمره صلى الله عليه وسلم بتجديد الإسلام ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه، والناس اليوم قد اتخذوا من قبيل ذات الأنواط شيئاً كثيراً لا يحيط به نطاق الحصر، والآمر بالمعروف أعز من بيض الأنوق والامتثال بفرض الأمر منوط بالعيوق والأمر لله الواحد القهار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏142‏)‏‏}‏

‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً‏}‏ روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى عليه السلام ربه الكتاب فأمره أن يصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة‏.‏

وأخرج الديلمي عن ابن عباس يرفعه لما أتى موسى عليه السلام ربه عز وجل وأراد أن يكلمه بعد الثلاثين وقد صام ليلهن ونهارهن كره أن يكلم ربه سبحانه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول من نبات الأرض فمضغه فقال له ربه‏:‏ لم أفطرت‏؟‏ وهو أعلم بالذي كان قال‏:‏ أي رب كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح، قال‏:‏ أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك‏؟‏ ارجع فصم عشرة أيام ثم ائتني ففعل موسى عليه السلام الذي أمره ربه وذلك أمره ربه وذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ بِعَشْرِ‏}‏ والتعبير عنها بالليالي كما قيل لأنها غرر الشهور‏.‏

وقيل‏:‏ إنه عليه السلام أمره الله تعالى أن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها بما يقر به من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة وكلم فيها، وقد أجمل ذكر الأربعين في البقرة وفصل هنا، ‏{‏وواعدنا‏}‏ بمعنى وعدنا، وبذلك قرأ أبو عمرو‏.‏ ويعقوب، ويجوز أن تكون الصيغة على بابها بناء على تنزيل قبول موسى عليه السلام منزلة الوعد، وقد تقدم تحقيقة‏.‏ و‏{‏ثلاثين‏}‏ كما قال أبو البقاء مفعول ثان لواعدنا بحذق المضاف أي إتمام ثلاثين ليلة أو اتيانها ‏{‏فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ من قبيل الفذلكة لما تقدم، وكأن النكتة في ذلك أن اتمام الثلاثين بعشر يحتمل المعنى المتبادر وهو ضم عشرة إلى ثلاثين لتصير بذلك أربعين، ويحتمل أنها كانت عشرين فتمت بعشرة ثلاثين كما يقال أتممت العشرة بدرهمين على معنى أنها لولا الدرهمان لم تصر عشرة فلدفع توهم الاحتمال الثاني جيء بذلك، وقيل‏:‏ إن الإتمام بعشر مطلق يحتمل أن يكون تعيينها بتعيين الله تعالى أو بإرادة موسى عليه السلام فجيء بما ذكر ليفيد أن المراد الأول، وقيل‏:‏ جيء به رمزاً إلى أنه لم يقع في تلك العشر ما يوجب الجبر، والميقات بمعنى الوقت، وفرق جمع بينهما بأن الوقت مطلق والميقات وقت قدر فيه عمل من الأعمال ومنه مواقيت الحج، ونصب ‏{‏أَرْبَعِينَ‏}‏ قيل‏:‏ على الحالية أي بالغاً أربعين، ورده أبو حيان بأنه على هذا يكون معمولاً للحال المحذوف لا حالاً، وأجيب بأن النحويين يطلقون الحكم الذي للعامل لمعموله القائم مقامه فيقولون في زيد في الدار إن الجار والمجرور خبر مع أن الخبر إنما هو متعلقة‏.‏

وتعقب بأن الذي ذكره النحاة في الظرف دون غيره فالأحسن أنه حال بتقدير معدوداً، وفيه أن دعوى تخصيص الذكر في الظرف خلاف الواقع كما لا يخفى على المتتبع، وأن ما زعمه أحسن مما تقدم يرد عليه ما يرد عليه، وقيل‏:‏ إنه تمييز، وقيل‏:‏ إنه مفعول به بتضمين ‏{‏تم‏}‏ معنى بلغ، وقيل‏:‏ إن تم من الأفعال الناقصة وهذا خبره وهو خبر غريب، وقيل‏:‏ إنه منصوب على الظرفية‏.‏ وأورد عليه أنه كيف تكون الأربعين ظرفاً للتمام والتمام إنما هو بآخرها إلا أن يتجوز فيه‏.‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى‏}‏ حين توجه إلى المناجاة حسبما أمر به ‏{‏لاِخِيهِ هارون‏}‏ اسم أعجمي عبراني لم يقع في كلام العرب بطريق الاصالة، ويكتب بدون الف، وهو هنا بفتح النون على أنه مجرور بدلاً من أخيه أو بياناً له، أو منصوب مفعولاً به لمقدر أعني أعني وقرىء شاذا بالضم على أنه خبر مبتدأ محذوف هو هو أو منادي حذف منه حرف النداء أي يا هرون ‏{‏اخلفنى‏}‏ أي كن خليفتي ‏{‏فِى قَوْمِى‏}‏ وراقبهم فيما يأتون وما يذرون، واستخلافه عليه السلام لأخيه مع أنه عليه السلام كان نبياً مرسلاً مثله قيل‏:‏ لأن الرياسة كانت له دونه، واجتماع الرياسة مع الرسالة والنبوة ليس أمراً لازماً كما يرشد إلى ذلك سبر قصص أنبياء بني اسرائيل، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أن هارون ذكر له أن نبي بحكم الأصالة ورسول بحكم التبعية فلعل هذا الاستخلاف من آثار تلك التبعية، وقيل‏:‏ إن هذا كما يقول أحد المأمورين بمصلحة للآخر إذا أراد الذهاب لأمر‏:‏ كن عوضا عني على معنى أبذل غاية وسعك ونهاية جهدك بحيث يكون فعلك فعل شخصين ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ ما يحتاج إلى الاصلاح من أمور دينهم، أو كن مصلحا على أنه منزل منزلة اللازم من غير تقدير مفعول‏.‏

وعن ابن عباس أنه يريد الرفق بهم والإحسان إليهم، وقيل‏:‏ المراد احملهم على الطاعة والصلاح ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين‏}‏ أي ولا تتبع سبيل من سلك الافساد بدعوة وبدونها، وهذا من باب التوكيد كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا‏}‏ أي لوقتنا الذي وقتناه أي لتمام الأربعين، واللام للاختصاص كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِدُلُوكِ الشمس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ وهي بمعنى عند عند بعض النحويين ‏{‏وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ من غير واسطة بحرف وصوت ومع هذا لا يشبه كلام املخلوقين ولا محذور في ذلك كما أوضحناه في الفائدة الرابعة، وإلى ما ذكر ذهب السلف الصالح، وقد أخرج البزار‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وأبو نعيم في الحلية‏.‏ والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر قال‏:‏ قال ‏"‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لما كلم الله تعالى موسى يوم الطهور كملة بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى‏:‏ يا رب أهذا كلامك الذي كلتني به‏؟‏ قال يا موسى‏:‏ أنا كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا‏:‏ يا موسى صف لنا كلام الرحمن، فقال‏:‏ لا تستطيعونه ألم تروا إلى صوت الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتوه فذاك قريب منه وليس به ‏"‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم وصححه عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية قال‏:‏ «إنما كلم الله تعالى موسى بقدر ما يطيق من كلامه ولو تكلم بكلامه كله لم يطقه شيء» وأخرج جماعة عن كعب قال‏:‏ «لما كلم الله تعالى موسى كلمه بالألسنة كلها فجعل يقول‏:‏ يا رب لا أفهم حتى كلمه آخر الألسنة بلسان بمثل صوته» الخبر، وأخرجوا عن ابن كعب القرظي أنه قال‏:‏ قيل لموسى عليه السلام ما شبهت كلام ربك مما خلق‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ بالرعد الساكن، وأخرج الديلمي عن أبي هريرة مرفوعاً لما خرج أخي موسى إلى مناجاة ربه كلمه ألف كلمة ومائتي كلمة فأول ما كلمه بالبربرية، ونقل عن الأشعري أن موسى عليه السلام إنما سمع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى ولم يكن ما سمعه مختصاً بجهة من الجهات، وجمله على السماع بالفعل مشكل مع الأخبار الدالة على خلافه؛ والظاهر أن ذلك إن صح نقله فهو قول رجع عنه إلى مذهب السلف الذي أبان عن اعتقاده له في الإبانة ‏{‏قَالَ رَبّ أَرِنِى‏}‏ أي ذاتك أو نفسك فالمفعول الثاني محذوف لأنه معلوم، ولم يصرح به تأدبا ‏{‏أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ مجزوم في جواب الدعاء، واستشكل بأن الرؤية مسببة عن النظر متأخرة عنه كما يريك ذلك النظر إلى قولهم‏:‏ نظرت إليه فرأيته، ووجهه أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء التماساً لرؤيته والرؤية الإدراك بالباصرة بعد التلقيب وحينئذ كيف يجعل النظر جواباً لطلب الرؤية مسبباً عنه وهو عكس القضية‏.‏

وأجيب بأن المراد بالاراءة ليس إيجاد الرؤية بل التمكن منها مطلقاً أو بالتجلي والظهور وهو مقدم على النظر وسبب له، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم أي مكنى من رؤيتك أو تجل لي فانظر إليك وأراك ‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا قال رب العزة حين قال موسى عليه السلام ذلك، فقيل‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏لَنْ‏}‏ أي لا قابلية لك لرؤيتي وأنت على ما أنت عليه، وهو نفي للإراءة المطلوبة على أتم وجه ‏{‏تَرَانِى ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ‏}‏ إستدراك لبيان أنه عليه السلام لا يطيق الرؤية، والمراد من الجبل طور سيناء كما ورد في غير ما خبر، وفي تفسير الخازن وغيره أن اسمه زبير بزاي مفتوحة وباء موحدة مكسورة وراء مهملة بوزن أمير ‏{‏فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ‏}‏ ولم يفتته التجلي ‏{‏فَسَوْفَ تَرَانِى‏}‏ إذا تجليت لك ‏{‏فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ‏}‏ أي ظهر له على الوجه اللائق بجنابه تعالى بعد جعله مدركاً لذلك ‏{‏جَعَلَهُ دَكّا‏}‏ أي مدكوكاً متفتتاً، والدك والدق أخوان كالشك والشق‏.‏

وقال سيخنا الكوراني‏:‏ إن الجبل مندرج في الأشياء التي تسبح بحمد الله بنص ‏{‏وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏ المحمول على ظاهره عند التحقيق المستلزم لكونه حياً مدركاً حياة وإدراكاً لائقين بعالمه ونشأته، وقيل‏:‏ هذا مثل لظهور اقتداره سبحانه وتعلق إرادته بما فعل بالجبل لا أن ثم تجليا وهو نظير ما قرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ من أن المراد أن ما قضاه سبحانه وأراد كونه يدخل تحت الوجود من غير توقف لا أن ثمة قولا‏.‏ وتعقبه صاحب الفوائد بأن هذا المعنى غير مفهوم من الآية لأن تجلي مطاوع جليته أي أظهرته يقال‏:‏ جليته فتجلى أي أظهرته فظهر ولا يقدر تجلي اقتداره لأنه خلاف الأصل، على أن هذا الحمل بعيد عن المقصود بمراحل‏.‏ وأخرج أحمد‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ والترمذي والحاكم وصححاه‏.‏ والبيهقي وغيرهم من طرق عن أنس بن مالك «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ‏{‏فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ‏}‏ الخ قال هكذا وأشار باصبعيه ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر وفي لفظ على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل» وعن ابن عباس أنه قال ما تجلى منه سبحانه للجبل إلا قدر الخنصر فجعله تراباً، وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم أو التأويل بما يليق بجلال ذاته تعالى‏.‏ وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏دَكَّاء‏}‏ بالمد أي أرضا مستوية، ومنه قولهم ناقة دكاء للتي لم يرتفع سنامها‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب ‏{‏دَكّاً‏}‏ بضم الدال والتنوين جمع دكاء كحمر وحمراء أي قطعا دكا فهو صفة جمع، وفي شرح التسهيل لأبي حيات أنه أجرى مجرى الأسماء فاجرى على المذكر ‏{‏وَخَرَّ موسى‏}‏ أي سقط من هول ما رأى، وفرق بعضهم بين السقوط والخرور بأن الأول مطلق والثاني سقوط له صوت كالخرير ‏{‏صَعِقًا‏}‏ أي صاعقا وصائحا من الصعقة، والمراد أنه سقط مغشياً عليه عند ابن عباس‏.‏

والحسن رضي الله تعالى عنهم‏.‏ وميتا عند قتادة‏.‏

روي أنه بقي كذلك مقدار جمعة، وعن ابن عباس أنه عليه السلام أخذته الغشية عشية يوم الخميس يوم عرفة إلى عشية يوم الجمعة، ونقل بعض القصاصين أن الملائكة كانت تمر عليه حينئذ فيلكزونه بارجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة وهو كلام ساقط لا يعول عليه بوجه، فإن الملائكة عليهم السلام مما يجب تبرئتهم من إهانة الكليم بالوكز بالرجل والغضب في الخطاب ‏{‏فَلَمَّا أَفَاقَ‏}‏ بأن عاد إلى ما كان عليه قبل وذلك بعود الروح إليه على ما قال قتادة أو بعود الفهم والحس على ما قال غيره، والمشهور أن الإفاقة رجوع العقل والفهم إلى الإنسان بعد ذهابهما عنه بسبب من الأسباب، ولا يقال للميت إذا عادت إليه روحه أفاق وإنما يقال ذلك للمغشى عليه ولهذا اختار الأكثرون ما قاله الحبر ‏{‏قَالَ‏}‏ تعظيماً لأمر الله سبحانه ‏{‏سبحانك‏}‏ أي تنزيهاً لك من مشابهة خلقك في شيء، أو من أن يثبت أحد لرؤيتك على ما كان عليه قبلها، أو من أن أسألك شيئاً بغير اذن منك ‏{‏تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ من الاقدام على السؤال بغير أذن، وقيل‏:‏ من رؤية وجودي والميل مع ارادتي ‏{‏وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين‏}‏ بعظمتك وجلالك أو بأنه لا يراك أحد في هذه النشأة فيثبت على ما قيل، وأراد كما قال الكوراني أنه أول المؤمنين بذلك عن ذوق مسبوق بعين اليقين في نظره، وقبل‏:‏ أراد أول المؤمنين بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك‏.‏

واستدل أهل السنة المجوزون لرؤيته سبحانه بهذه الآية على جوازها في الجملة، واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك وقامت الحرب بينهما على ساق، وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل السنة قالوا‏:‏ إن الآية تدل على إمكان الرؤية من وجهين‏.‏ الأول أن موسى عليه السلام سألها بقوله‏:‏ ‏{‏رَبّ أَرِنِى‏}‏ الخ، ولو كانت مستحيلة فإن كان موسى عليه السلام عالماً بالاستحالة فالعاقل فضلاً عن النبي مطلقاً فضلاً عمن هو من أولي العزم لا يسأل المحال ولا يطلبه، وإن لم يكن عالماً بذلك لزم أن يكون آحاد المعتزلة ومن حصل طرفا من علومهم أعلم بالله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز من النبي الصفى، والقول بذلك غاية الجهل والرعونة، وحيث بطل القول بالاستحالة تعين القول بالجواز، والثاني أن فيها تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في نفسه وما علق على الممكن ممكن‏.‏

واعترض الخصوم الوجه الأول بوجوه‏.‏ الأول أنا لا نسلم أن موسى عليه السلام سأل الرؤية وإنما سأل العلم الضروري به تعالى إلا أنه عبر عنه بالرؤسة مجازاً لما بينهما من التلازم، والتعبير بأحد المتلازمين عن الآخر شائع في كلامهم، وإلى هذا ذهب أبو الهذيل بن العلاف وتابعه عليه الجبائي وأكثر البصريين‏.‏ الثاني أنا سلمنا أنه لم يسأل العلم بل سأل الرؤية حقيقة لكنا نقول‏:‏ إنه سأل رؤية علم من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فمعنى ‏{‏أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ أرني أنظر إلى علم من أعلامك الدالة على الساعة، وإلى هذا ذهب الكعبي والبغداديون، الثالث أنا سلمنا أنه سأل رؤية الله تعالى نفسه حقيقة ولكن لم يكن ذلك لنفسه عليه السلام بل لدفع قومه القائلين ‏{‏أَرِنَا الله جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ وإنما أضاف الرؤية إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم وردعهم عما سألوه تنبيهاً بالأعلى على الأدنى، وإلى هذا ذهب الجاحظ ومتبعوه، الرابع أنا سلمنا أنه سأل لنفسه لكن لا نسلم أن ذلك ينافي العلم بالإحالة إذ المقصود من سؤالها إنما هو أن يعلم الإحالة بطريق سمعي مضاف إلى ما عنده من الدليل العقلي لقصد التأكيد، وذلك جائز كما يدل عليه طلب إبراهيم عليه السلام إراءة كيفية إحياء الموتى، وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏ وإلى ذلك ذهب أبو بكر الأصم، الخامس أنا سلمنا أن سؤال الرؤية ينافي العلم بالإحالة لكنا نلتزم القول بعدم العلم وهو غير قادح في نبوته عليه السلام فإن النبوة لا تتوقف على العلم بجميع العقائد الحقة أو جميع ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز بل ما يتوقف عليه الغرض من البعثة والدعوة إلى الله تعالى وهو وحدانيته وتكليف عباده بالأوامر والنواهي تحريضاً لهم على النعم المقيم، وليس امتناع الرؤية من هذا القبيل، ويؤيد ذلك أنه سأل وقوع الرؤية في الدنيا وهي غير واقعة عندنا وعندكم، ونسب هذا القول إلى الحسن منا وهو غريب منه‏.‏

السادس أنا سلمنا العلم بالإحالة لكن لا نسلم امتناع السؤال وإنما يمتنع أن لو كان محرماً في شرعه لم لا يجوز أن لا يكون محرماً‏؟‏، السابع أنا سلمنا الحرمة لكن لا نسلم أن ذلك كبيرة لم لا يجوز أن يكون صغيرة وهي غير ممتنعة على الأنبياء عليهم السلام‏؟‏‏.‏

وتكلموا على الوجه الثاني من وجهين‏:‏ الأول أنا لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن لأن التعليق لم يكن على استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط لأن الجبل حال سكونه كان مستقراً بل على استقراره حال حركته وهو محال لذاته، والثاني أنا وإن سلمنا أن استقرار الجبل ممكن لكن لا نسلم أن المعلق بالممكن ممكن فإنه يصح أن يقال‏:‏ إن انعدم المعلوم انعدم العلة، والعلة قد تكون ممتنعة العدم مع إمكان المعلول في نفسه كالصفات بالنسبة إلى الذات عند المتكلمين، والعقل الأول بالنسبة إليه تعالى عند الحكماء، فيجوز أن تكون الرؤية الممتنعة متعلقة بالاستقرار الممكن، والسر في جواز ذلك أن الارتباط بين المعلق والمعلق عليه إنما هو بحسب الوقوع بمعنى أنه إن وقع عدم المعلول وقع عدم العلة، والممكن الذاتي قد يكون ممتنع الوقوع كالممتنع الذاتي فيجوز التعليق بينهما وليس الارتباط بينهما بحسب الإمكان حتى يلزم من إمكان المعلق عليه إمكان المعلق، ثم إنا وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه من الوجهين على جواز الرؤية فهو معارض بما يدل على عدم الجواز فإن ‏{‏لَنْ‏}‏ في الآية لتأبيد النفي وتأكيده وأيضاً قول موسى عليه السلام‏:‏ ‏(‏تبت إليك‏)‏ دليل كونه مخطئاً في سؤاله ولو كانت الرؤية جائزة لما كان مخطئاً، والزمخشري عامله الله تعالى بعدله زعم أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية، وذكر في كشافه ما ذكر وقال‏:‏ ثم أعجب من المتسمين بالإسلام المسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قال بعض العدلية فيهم‏:‏

وجماعة سموا هواهم سنة *** لجماعة حمر لعمري موكفه

قد شبهوه بخلقه وتخوفوا *** شنع الورى فتستروا بالبلكفه

وأجيب عن قولهم‏:‏ إنه عليه السلام إنما سأل العلم الضروري بأنه لو كانت الرؤية بمعنى العلم الضروري لكان النظر المذكور بعد أيضاً بمعناه وليس كذلك، فإن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية لا يحتمل سواه فلا يترك للاحتمال‏.‏

وفي شرح المواقف أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول، وأورد عليه أن المراد هو العلم بهويته الخاصة، والخطاب لا يقتضي إلا العلم بوجه كمن يخاطبنا من وراء الجدار، والمراد بالعلم بالهوية الخاصة انكشاف هويته تعالى على وجه جزئي بحيث لا يمكن عند العقل صدقه على كثيرين كما في المرئى بحاسة البصر، ولا شك في كونه ممكناً في حقه تعالى لأنه قادر على أن يخلق في البعد علماً ضرورياً بهويته الخاصة على الوجه الجزئي بدون استعمال الباصرة كما يخلق بعده، وفي عدم لزومه الخطاب فإنه إنما يقتضي العلم بالمخاطب بأمور كلية يمكن صدقها على كثيرين عند العقل وإن كانت في الخارج منحصرة في شخص واحد فهو من قبيل التعقل، وبهذا التحرير يعلم رصانة الإيراد ودفع ما أورد عليه، ويظهر منه ركاكة ما قاله الآمدي‏.‏ من أن حمل الرؤية على العلم يلزم منه أن يكون موسى عليه السلام غير عالم بربه لئلا يلزم تحصيل الحاصل، ونسبة ذلك إلى الكليم من أعظم الجهالات لأنا نقول العلم بالهوية الخاصة على ما ذكرنا ليس من ضروريات النبوّة ولا المكالمة كما لا يخفى‏.‏

نعم يأبى هذا الحمل التعدية كما علمت ويبعده الجواب بلن تراني ولكن انظر الخ كما هو ظاهر وإن تكلف له الزمخشري بما تمجه الاسماع‏.‏

وقيل‏:‏ إنه لو ساغ هذا التأويل لساغ مثله في ‏{‏أَرِنَا الله جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ لتساوي الدلالة وهو ممتنع بالإجماع وجهرة لا يزيد على كون النظر موصولاً بإلى‏.‏ وأجيب عن قولهم‏:‏ إنما سأله أن يريه علماً من أعلام الساعة بأنه لا يستقيم لثلاثة أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ أنه خلاف الظاهر من غير دليل‏.‏ ثانيها‏:‏ أنه أجيب بلن تراني وهو إن كان محمولاً على نفي ما وقع السؤال عنه من رؤية بعض الآيات فهو خلف فإنه قد أراه سبحانه أعظم الآيات وهو تدكدك الجبل، وإن كان محمولاً على نفي الرؤية لزمن أن لا يكون الجواب مطابقاً للسؤال‏.‏ ثالثها‏:‏ أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى‏}‏ إن كان محمولاً على رؤية الآية فهو محال لأن الآية ليست في استقرار الجبل بل في تدكدكه، وإن كان محمولاً على الرؤية لا يكون مرتبطاً بالسؤال، فإذن لا ينبغي حمل ما في الآية على رؤية الآية، وعن قولهم‏:‏ إن الرؤية وقعت لدفع قومه بأن ذلك خلاف الظاهر من غير دليل، وكون الدليل أخد الصعقة ليس بشيء‏.‏ وأيضاً كان يجب عليه السلام أن يبادر إلى ردعهم وزجرهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله تعالى كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ عند قولهم‏:‏ ‏{‏اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ وقولهم‏:‏ إن المقصود ضم الدليل السمعي إلى العقلي ليس بشيء إذ ذلك كان يمكن بطلب إظهار الدليل السمعي له من غير أن يطلب الرؤية مع إحالتها، وقصته تقدم الكلام فيها، وما ذكروه في الوجه الخامس ظاهر رده من تقرير الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما أهل السنة، وحاصله أنه يلزمهم أن يكون الكليم عليه السلام دون آحاد المعتزلة علماً ودون من حصل طرفاً من الكلام في معرفة ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز، وهذه كلمة حمقاء وطريقة عوجاء لا يسلكها أحد من العقلاء، فإن كون الأنبياء عليهم السلام أعلم ممن عداهم بذاته تعالى وصفاته العلا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، وكون الرؤية في الدنيا غير واقعة عند الفريقين إن أريد به أنها غير ممكنة الوقوع فهو أول المسألة وإن أريد أنها ممكنة لكنها لا تقع لأحد فلا نسلم أنه أجمع على ذلك الفريقان، أما المعتزلة فلأنهم لا يقولون بإمكانها، وأما أهل السنة فلأن كثيراً منهم ذهب إلى أنها وقعت لنبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وهو قول ابن عباس‏.‏ وأنس وغيرهما، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله سبحانه الفرية مدفوع أو مؤول بأن المراد من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم في نوره الذي هو نوره أعني النور الشعشعاني الذي يذهب بالأبصار، وهو المسار إليه في حديث

«لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره» فقد أعظم الفرية، ومن هذا يعلم ما في احتمال إرادة عدم الوقوع مع قطع النظر عن الإمكان وعدمه‏.‏ وقولهم‏:‏ إنه يجوز أن لا يكون ذلك الطلب محرماً في شرعه فلا يمتنع يرد عليه أن دليل الحرمة ظاهر، فإن طلب المحال لو لم يكن حراماً في شرعه عليه السلام لما بلغ في التشنيع على قومه حين طلبوا ما طلبوا على أنا لو سلمنا أنه ليس بحرام يقال‏:‏ إنه لا فائدة فيه وما كان كذلك فمنصب النبوة منزه عنه، ومن هذا يعلم ما في قولهم الأخير‏.‏

وأجيب عن قولهم‏:‏ إن المعلق عليه هو استقرار الجبل حال حركته بأنهم إن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار حال وجود الحركة مع الحركة فهو زيادة اضمار وترك لظاهر اللفظ من غير دليل فلا يصح، وإن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار في الحالة التي وجدت فيها الحركة بدلاً عن الحركة فلا يخفى جوازه، فكيف يدعى أنه محال لذاته‏؟‏، وبعضهم قال في الرد‏:‏ إن المعلق عليه استقرار الجبل بعد النظر بدليل الفاء، وحين تعلقت إرادة الله تعالى بعدم استقراه عقيب النظر استحال استقراره وإن كان بالغير فعدل عن القول بالمحال بالذات إلى القول بالمحال بالغير لأن الغرض يتم به أيضاً، وتعقبه السالكوتي وغيره بأنه ليس بشيء لأن استقرار الجبل حين تعلق إرادته تعالى بعدم استقراره أيضاً ممكن بأن يقع بدله الاستقرار إنما المحال استقراره مع تعلق إرادته سبحانه بعدم الاستقرار، ولبعض فضلاء الروم ههنا كلام نقله الشهاب لا تغرنك قعقعته فإن الظواهر لا تترك لمجرد الاحتمال المرجوح، وأجيب عن قولهم لا نسلن أن المعلق بالممكن ممكن الخ بأن المراد بالممكن المعلق عليه الممكن الصرف والخالي عن الامتناع مطلقاً، ولا شك أن إمكان المعلول فيما امتنع عدم علته ليس كذلك بل التعليق بينهما إنما هو بحسب الامتناع بالغير فإن استلزام عدم الصفات وعدم العقل الأول عدم الواجب من حيث إن وجود كل منهما واجب وعدمه ممتنع بوجود الواجب، وأما بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن الأمور الخارجة فلا استلزام بخلاف استقرار الجبل فإنه ممكن صرف غير ممتنع لا بالذات ولا بالعرض كما لا يخفى، على أن بعضهم نظر في صحة المثال لغة وإن كان فيه ما فيه، وما قيل‏:‏ إنه ليس المقصود في الآية بيان جواز الرؤية وعدم جوازها إذ هو غير مسؤول عنه بل المقصود إنما هو بيان عدم وقوعها وعدم الشرط مكتفل بذلك كلام لا طائل تحته، إذ الجواز وعدم الجواز من مستتبعات التعليق بإجماع جهابذة الفريقين، وما ذكروه في المعارضة من أن ‏{‏لَنْ‏}‏ تفيد تأبيد النفي غير مسلم، ولو سلم فيحتمل أن ذلك بالنسبة إلى الدنيا كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 95‏]‏ فإن إفادة التأبيد فيه أظهر، وقد حملوه على ذلك أيضا لأنهم يتمنونه في الآخرة للتخلص من العقوبة، ومما يهدي إلى هذا أن الرؤية المطلوبة إنما هي الرؤية في الدنيا وحق الجواب أن يطابق السؤال، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن أن نفي الرؤية مقيد لا مطلق فليتبع بيانه عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول‏.‏ وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال‏:‏ «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ‏{‏رَبّ أَرِنِى‏}‏ الخ فقال‏:‏ قال الله تعالى يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم» وهذا ظاهر في أن مطلوب موسى عليه السلام كان الرؤية في الدنيا مع بقائه على حالته التي هو عليها حين السؤال من غير أن يعقبها صعق لأن قوله عز وجل‏:‏ إنه لن يراني حي الخ لا ينفي إلا الرؤية في الدنيا مع الحياة لا الرؤية مطلقاً، فمعنى ‏{‏لَن تَرَانِى‏}‏ في الآية لن تراني وأنت باق على هذه الحالة لا لن تراني في الدنيا مطلقاً فضلاً عن أن يكون المعنى لن تراني مطلقاً لا في الآخرة‏.‏ نعم إن هذا الحديث مخصص بما صح مرفوعاً وموقوفاً أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء مع عدم الصعق، ولعل الحكمة في اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك أن نشأته عليه الصلاة والسلام أكمل نشأة وأعدلها صورة ومعنى لجامعيته صلى الله عليه وسلم للحقائق على وجه الاعتدال وهي فيه متجاذبة ومقتضى ذلك الثبات بإذن الله تعالى ومع ذلك فلم يقع له التجلي إلا في دار البقاء فاجتمع مقتضى الموطن مع مقتضى كمال اعتدال النشأة، وقد يقال أيضاً على سبيل التنزل‏:‏ لو سلمنا دلالة لن على التأبيد مطلقاً لكان غاية ذلك انتفاء وقوع الرؤية ولا يلزم منه انتفاء الجواز، والمعتزلة يزعمون ذلك وقولهم‏:‏ قوله عليه السلام ‏{‏تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ يدل على كونه مخطئاً ليس بشيء لأن التوبة قد تطلق بمعنى الرجوع وأن لم يتقدمها ذنب، وعلى هذا فلا يبعد أن يكون المراد من تبث إليك أي رجعت إليك عن طلب الرؤية‏.‏

وذكر ابن المنير أن تسبيح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وأما التوبة في حق الأنبياء عليهم السلام فلا يلزم أن تكون عن ذنب لأن منزلتهم العلية تصان عن كل ما يحط عن مرتبة الكمال، وكان عليه عليه السلام نظراً إلى علو شأنه أن يتوقف في سؤال الرؤية على الاذن فحيث سأل من غير إذن كان تاركاً الأولى بالنسبة إليه، وقد ورد

«حسنات الابرار سيئات المقربين» وذكر الإمام الرازي نحو ذلك‏.‏ وقال الآمدي‏:‏ إن التوبة وان كانت تستعدي سابقية الذنب إلا أنه ليس هناك ما يدل قطعاً على أن الذنب في سؤاله بل جاز أن تكون التوبة عما تقدم قبل السؤال مما يعده هو عليه السلام ذنباً والداعي لذلك ما رأى من الأهوال العظيمة من تدكدك الجبل على ما هو عادة المؤمنين الصلحاء من تجديد التوبة عما سلف إذا رأوا آية وأمراً مهولا، وذكر أن قوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين‏}‏ ليس المراد منه ابتداء الإيمان في تلك الحالة بل المراد به إضافة الأولية إليه لا إلى الإيمان، ولعل المراد من ذلك الإخبار الاستعطاف لقبول توبته عليه السلام عما هو ذنب عنده، وأراد بالمؤمنين قومه على ما روي عن مجاهد، وما يشير إليه كلام الزمخشري من أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية لا يخفى ما فيه على من أحاط خبرا بما ذكرناه، ومن المحققين من استند في دلالة الآية على إمكانها بغير ما تقدم أيضاً، وهو أنه تعالى أحال انتفاء الرؤية على عجز الرائي وضعفه عنها حيث قال له‏:‏ ‏{‏لَن تَرَانِى‏}‏ ولو كانت رؤيته تعالى غير جائزة لكان الجواب لست بمرئي، ألا ترى لو قال‏:‏ أرني أنظر إلى صورتك ومكانك لم يحسن في الجواب أن يقال لن ترى صورتي ولا مكاني بل الحسن لست بذي صورة ولا مكان‏.‏ وقال بعضهم بعد أن بين كون الآية دليلاً على أن الرؤية جائزة في الجملة ببعض ما تقدم‏:‏ ولذلك رده سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏لَن تَرَانِى‏}‏ دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إلى تنبيها على أنه عليه السلامقاصر عن رؤيته تعالى لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه بعد، وذلك لأن لن أرى يدل على امتناع الرؤية مطلقاً ولن أريك يقتضي أن المانع من جهته تعالى، وليس في لن تنظر تنبيه على المقصود لأن النظر لا يتوقف على معد وإنما المتوقف عليه الرؤية والإدراك، وعلل النيسابوري عدم كون الجواب لن تنظر إلى المناسب لأنظر إليك بأن موسى عليه السلام لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل أرني‏.‏ وانتصر بعضهم للمعتزلة بأن لهم أن يقولوا‏:‏ إن طلب الإراءة متضمن لطلب رفع الموانع من الرؤية وإيجاد ما تتوقف هي عليه لأن معنى ذلك مكنى من الرؤية والتمكين إنما يتم بما ذكر من الرفع والإيجاد، وكان الظاهر في رد هذا الطلب لن أمكنك من رؤيتي لكن عدل عنه إلى لن تراني إشارة إلى استحالة الرؤية وعدم وقوعها بوجه من الوجوه، كأنه قيل‏:‏ إن رؤيتك لي أمر محال في نفسه وتمكيني إنما يكون من الممكن، ولو لم يكن المراد ذلك بل كان المراد أنك لا قابلية لك لرؤيتي لكان لموسى عليه السلام أن يقول يا رب أنا أعلم عدم القابلية لكني سألتك التمكين وهو متضمن لسؤال إيجادها لأنها مما تتوقف الرؤية عليه، فعلى هذا لا يكون الجواب مفيداً لموسى عليه السلام ولا مقنعاً له بخلافه على الأول، فيكون حينئذ هو المتعين‏.‏

فإن قيل‏:‏ القابلية وعدم القابلية من توابع الاستعداد وعدم الاستعداد وهما غير مجعولين، قلنا‏:‏ هذا على ما فيه من الكلام العريض والنزاع الطويل مستلزم لمطلوبنا من امتناع الرؤية كما لا يخفى على من له أدنى استعداد لفهم الحقائق‏.‏

وأجيب بأن طلب التمكين من شيء إنما يتضمن طلب رفع الموانع التي في جانب المطلوب منه فقط على ما هو الظاهر لا مطلقاً بحيث يشمل ما كان في جانب المطلوب منه وما كان في جانب الطالب، ويرشد إلى ذلك أن قولك‏:‏ لم يمكني زيد من قتل عمرو مثلاً ظاهر في أنه حال بينك وبين قتله مع تهيئك له وارتفاع الموانع التي من قبلك عنه، فكأن موسى عليه السلام لما كلمه ربه هاج به الشوق إلى الرؤية كما قال الحسن‏:‏ لأن دو الله إبليس غاص في الأرض حتى خرج من بين قدميه فوسوس إليه إن مكلمك شيطان فعند ذلك سألها كما قال السدي‏:‏ وأعوذ بالله من اعتقاده فذهل عن نفسه وما فيها من الموانع فلم يخطر بباله إلا طلب رفع الموانع عنها من قبل الرب سبحانه فنبهه جل شأنه بقوله‏:‏ ‏{‏لَن تَرَانِى‏}‏ على وجود المانع فيه عن الرؤية وهو الضعف عن تحملها وأراه ضعف من هو أقوى منه عن ذلك بدك الجبل عند تجليه له، ففائدة الاستدراك على هذا أن يتحقق عنده عليه السلام أنه أضعف من أن يقوم لتجلي الرؤية، وهو على ما هو عليه، ويمكن أن تكون التوبة منه عليه السلام بعد أن أفاق من هذه الغفلة، وحينئذ لا شك أن الجواب بـ ‏{‏لَن تَرَانِى‏}‏ الخ مفيد مقنع‏.‏

هذا وذكر بعض المحققين أن حاصل الكلام في هذا المقام أن موسى عليه السلام كان عالماً بإمكان الرؤية ووقوعها في الدنيا لمن شاء الله تعالى من عباده عقلاً؛ والشروط التي تذكر لها ليست شروطاً عقلية وإنما هي شروط عادية ولم يكن عالماً بعدم الوقوع مع عدم تغير الحال حتى سمع ذلك من الرب المتعال، وليس في عدم العلم بما ذكر نقص في مرتبته عليه السلام لأنه من الأمور الموقوفة على السمع، والجهل بالأمور السمعية لا يعد نقصاً، فقد صح أن أعلم الخلق على الإطلاق نبينا صلى الله عليه وسلم سئل عن أشياء فقال‏:‏ سأسأل جبريل عليه السلام، وأن جبريل عليه السلام سئل فقال‏:‏ سأسأل رب العزة، وقد قالت الملائكة‏:‏

‏{‏سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏ وأن الآية لا تصلح دليلاً على امتناع الرؤية على ما يقوله المعتزلة بل دلالتها على إمكانها في الجملة أظهر وأظهر، بل هي ظاهرة في ذلك دون ما يقوله الخصوم، وما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في تفسير ‏{‏لَن تَرَانِى‏}‏‏:‏ إنه لا يكون ذلك أبداً لا حجة لهم فيه لأنه غير واف بمطلوبهم، مع أن التأبيد فيه بالنسبة إلى عدم تغير الحال كما يدل عليه الخبر المروي عنه سابقاً، وكذا ما رواه عنه أبو الشيخ إذ فيه‏:‏ يا موسى إنه لا يراني أحد فيحيا قال موسى‏:‏ رب إن أراك ثم أموت أحب إليَّ من أن لا أراك ثم أحيا، وما ذكره الزمخشري عن الأشياخ أنهم قالوا‏:‏ إنه تعالى يرى بلا كيف هو المشهور‏.‏

ونقل المناوي أن الكمال بن الهمام سئل عما رواه الدارقطني وغيره عن أنس من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رأيت ربي في أحسن صورة» بناء على حمل الرؤية على الرؤية في اليقظة فأجاب بأن هذا حجاب الصورة انتهى، وهو التجلي الصوري الشائع عند الصوفية، ومنه عندهم تجلي الله تعالى في الشجرة لموسى عليه السلام، وتجليه جل وعلا للخلق يوم يكشف عن ساق، وهو سبحانه وإن تجلى بالصورة لكنه غير متقيد بها والله من ورائهم محيط، والرؤية التي طلبها موسى عليه السلام غير هذه الرؤية، وذكر بعضهم أن موسى كان يرى الله تعالى إلا أنه لم يعلم أن ما رآه هو هو وعلى هذا الطرز يحمل ما جاء في بعض الروايات المطعون بها، رأيت ربي في صورة شاب، وفي بعضها زيادة له نعلان من ذهب، ومن الناس من حمل الرؤية في رواية الدارقطني على الرؤية المنامية، وظاهر كلام السيوطي أن الكيفية فيها لا تضر وهو الذي سمعته من المشايخ قدس الله تعالى أسرارهم، والمسألة خلافية، وإذا صح ما قاله المشايخ وأفهمه كلام السيوطي فأنا ولله تعالى الحمد قد رأيت ربي مناماً ثلاث مرات وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة، رأيته جل شأنه وله من النور ما له متوجهاً جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم إلى مقام محمد صلى الله عليه وسلم فذهب بي إليهما فرأيت ما رأيت ولله تعالى الفضل والمنة‏.‏

ومنهم من حمل الصورة على ما به التميز والمراد بها ذاته تعالى المخصوصة المنزهة عن مماثلة ما عداه من الأشياء البالغة إلى أقصى مراتب الكمال، وما ذكره من البيتين لبعض العدلية فهو في ذلك عثيثة تقرم جلداً أملساً والقول ما قاله تاج الدين السبكي فيهم‏:‏

عجباً لقوم ظالمين تلقبوا *** بالعدل ما فيهم لعمري معرفة

قد جاءهم من حيث لا يدرونه *** تعطيل ذات الله مع نفي الصفة

وتلقبوا عدلية قلنا نعم *** عدلوا بربهم فحسبهم سفه

وقال ابن المنير‏:‏

وجماعة كفروا برؤية ربهم *** هذا ووعد الله ما لن يخلفه

وتلقبوا عدلية قلنا أجل *** عدلوا بربهم فحسبوهم سفه

وتنعتوا الناجين كلا إنهم *** إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه

وبعد هذا كله نقول‏:‏ إن الناس قد اختلفوا في أن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا، فذهب أكثر الجماعة إلى أنه عليه السلام لم يره لا قبل الصعق ولا بعد‏.‏ وقال الشيخ الأكبر قدس سره‏:‏ إنه رآه بعد الصعق وكان الصعق موتاً، وذكر قدس سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر، والآية عندي غير ظاهر في ذلك، وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في تقرير كلام للزمخشري، إلا أن ذلك على احتمال أن تفسر بالانكشاف التام الذي لا يحصل إلا إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن وجودها فضلاً عن وجود الغير فإنه قال‏:‏ إن موسى عليه السلام لما طلب هذه المرتبة من الانكشاف وعبر عن نفسه ‏(‏بأنا‏)‏ دل على أن نظره كان باقياً على نفسهوهي لا تكون كذلك إلا متعلقة بالعلائق الجسمانية مشوبة بالشوائب المادية لا جرم منع عنه هذه المرتبة وأشير إلى أن منعها إنما كان لأجل بقاء أنا وأنت في قوله‏:‏ أرني ولن تراني، ثم لما لم يرد حرمانه عن حصول هذه المرتبة مع استعداده وتأهله لها علم طريق المعرفة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ‏}‏ فإن الجبل مع عدم تعلقه لما لم يطق نظرة من نظرات التجلي فموسى عليه السلام مع تعلقه كيف يطيق ذلك فلما أدرك الرمز خر صعقاً مغشياً عليه متجرداً عن العلائق فانياً عن نفسه فحصل له المطلوب فلما أفاق علم أن طلبه الرؤية في تلك الحالة التي كان عليها كان سوء أدب فتاب عنه‏.‏

وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دك الجبل للتجلي، وأيده بما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏"‏ لا تجلى الله تعالى لموسى عليه السلام كان يبصر دبب النملة على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ، وبما أخرجه عن أبي معشر أنه قال‏:‏ مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة لا ينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين ‏"‏ وجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود ‏"‏ بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلى الله عليه وسلم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق كما أن الكلام الذي أعطاه موسى كذلك بخلاف رؤية موسى عليه السلام فإنها لم تجمع له مع البقاء‏.‏ وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال «إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت هو أن أحداً لا يراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع له في الدنيا بينهما، وفسر الآية بما لا يخلو عن خفاء‏.‏

والذاهبون إلى عدم الرؤية مطلقاً يجيبون عما ذكره من حديث أبي هريرة وخبر أبي معشر بأن الثاني ليس فيه أكثر من إثبات سطوع نور الله تعالى على وجه موسى عليه السلام وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه تعالى على وجهه عليه السلام من غير رؤية فإنه لا تلازم بني الرؤية وأشراق النور وبأن الأول ليس نصاً في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي ولله تعالى تجليات شتى غير ذلك فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحة واحد منها، وقد يقطع بذلك فإنه سبحانه تجلى عليه عليه السلام بكلامه واصطفائه وقربه منه على الوجه الخاص اللائق به تعالى، ولا يبعد أن يكون هذا سبباً لذلك الإبصار، وهذا أولى مما قيل‏:‏ إن اللام في لموسى للتعليل ومتعلق تجلي محذوف أي لما تجلى الله تعالى للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب أشراق بعض أنوار تعالى عليه حين التجلي للجبل ما يبصر‏:‏

تضوع مسكاً بطن نعمان إذ مشت *** به زينب في نسوة خفرات

فالحق الذي لا ينبغي المحيص عنه أن موسى عليه السلام لم يحصل له ما سأل في هذا الميقات، والذي أقطع به أنه نال مقام قرب النوافل والفرائض الذي يذكره الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم بالمعنى الذي يذكرونه كيفما كان، وحاشا لله من أن أفضل أحداً من أولياء هذه الأمة وأن كانوا هم هم على أحد من أنبياء بني إسرائيل فضلاً عن رسلهم مطلقاً فضلاً عن أولي العزم منهم وقد ذكر بعض العارفين من باب الإشارة في هذه الآيات‏:‏ أن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة للتخلص من حجاب الأفعال والصفات والذات كل عشرة للتخلص من حجاب، واختيرت العشرة لأنها عدد كامل كما تقدم الكلام عليه عند قوله سبحانه‏:‏

‏{‏تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، لكن بقيت منه بقية ما خلص عنها، واستعمال السواك في الثلاثين الذي نطقت به بعض الآثار إشارة إلى ذلك فضم إلى الثلاثين عشرة أخرى للتخلص من تلك البقية، وجاء أنه عليه السلام أمر بأن يتقرب إليه سبحانه بما يتقرب به في ثلاثين، وأنزلت عليه التوراة في العشرة التي ضمت إليها لتكمل أربعين، وهو إشارة إلى أنه بلغ الشهوذ الذاتي التام في الثلاثين بالسلوك إلى الله تعالى ولم يبق منه شيء بل فنى بالكلية وفي العشرة الرابعة كان سلوكه في الله تعالى حتى رزق البقاء بعد الفناء بالإفاقة، قالوا‏:‏ وعلى هذا ينبغي أن يكون سؤال الرؤية في الثلاثين والإفاقة بعدها، وكان التكليم في مقام تجلي الصفات وكان السؤال عن إفراط شوق منه عليه السلام إلى شهود الذات في مقام فناء الصفات مع وجود البقية، و‏{‏لَن تَرَانِى‏}‏ إشارة إلى استحالة الإثنينية وبقاء الأنية في مقام المشاهدة، وهذا معنى قول من قال‏:‏ رأيت ربي بعين ربي، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ‏}‏ إشارة إلى جبل الوجود، أي انظر إلى جبل وجودك ‏{‏فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى‏}‏ وهو من باب التعليق بالمحال عنده ‏{‏فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا‏}‏ أي متلاشياً لا وجود له ‏{‏وَخَرَّ موسى‏}‏ عن درجة الوجود ‏{‏صَعِقًا‏}‏ أي فانياً ‏{‏فَلَمَّا أَفَاقَ‏}‏ بالوجود الموهوب الحقاني ‏{‏قَالَ سبحانك‏}‏ أن تكون مرئياً لغيرك ‏{‏تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ عن ذنب البقية، أو رجعت إليك بحسب العلم والمشاهدة إذ ليس في الوجود سواك ‏{‏وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين‏}‏ بحسب الرتبة، أي أنا في الصف الأول من صفوف مراتب الأرواح الذي هو مقام أهل الوحدة، وقد يقال‏:‏ إن موسى إشارة إلى موسى الروح ارتاض أربعين ليلة لتظهر منه ينابيع الحكمة وقال لأخيه هرون القلب ‏{‏اخلفنى فِى قَوْمِى‏}‏ من الأوصاف البشرية ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ من القوى الطبيعية، ولما حصل الروح على بساط القرب بعد هاتيك الرياضة وتتابعت عليه في روضات الأنس كاسات المحبة غرد بلبل لسانه في قفص فم وجوده فقال‏:‏ ‏{‏رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ فقال له‏:‏ هيهات ذاك وأين الثريا من يد المتناول‏؟‏ أنت بعد في بعد الإثنينية وحجاب جبل الأنانية فإن أردت ذلك فخل نفسك وائتني‏:‏

وجانب جناب الولص هيهات لم يكن *** وها أنت حي أن تكن صادقاً

مت هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا *** من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي

فهان عليه الفناء في جانب رؤية المحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذ رأى عزة المطلوب ونادى‏:‏

فقلت لها‏:‏ روحي لديك وقبضها *** إليك ومن لي أن تكون بقبضتي

وما أنا بالشاني الوفاة على الهوى *** وشأني الوفا تابي سواه سجيتي

فبذل وجوده وأعطى موجوده فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم من عليه برؤيته وكان ما كان وأشرقت الأرض بنور ربها وطفىء المصباح إذ طلع الصباح وصدح هزار الأنس في رياض القدس بنغم‏:‏

ولقد خلوت مع الحبيبة وبيننا *** سر أرق من النسيم إذا سرى

وأباح طرفي نظرة أملتها *** فغدوت معروفاً وكنت منكراً

فدهشت بين جماله وجلاله *** وغدا لسان الحال عني مخبرا

هذا والكلام في الرؤية طويل، وقد تكفل علم الكلام بتحقيق ذلك على الوجه الأكمل، والذي علينا إنما هو كشف القناع عما يتعلق بالآية، والذي نظنه أنا قد أدينا الواجب، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ يَا موسى‏}‏ استئناف مسوق لتسليته عليه السلام من عدم الإجابة إلى سؤاله على ما اقتضته الحكمة كأنه قيل‏:‏ إن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما أعطيتك فاغتنمه وثابر على شكره ‏{‏إِنْى اصطفيتك‏}‏ أي اخترتك وهو افتعال من الصفوة بمعنى الخيار والتأكد للاعتناء بشأن الخبر ‏{‏عَلَى الناس‏}‏ الموجودين في زمانك وهذا كما فضل قومه على عالمي زمانهم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 47‏]‏ ‏{‏برسالاتي‏}‏ أي بأسفار التوراة‏.‏ وقرأ أهل الحجاز‏.‏ وروح برسالتي ‏{‏وبكلامي‏}‏ أي بتكليمي إياك بغير واسطة‏.‏ أو الكلام على حذف مضاف أي بإسماع كلامي والمراد فضلتك بمجموع هذين الأمرين فلا يرد هارون عليه السلام لأنه لم يكن كليماً على أن رسالته كانت تبعية أيضاً وكان مأموراً باتباع موسى عليه السلام وكذلك لا يرد السبعون الذين كانوا معه عليه السلام في هذا الميقات في قول لأنهم وإن سمعوا الخطاب إلا أنهم ليس لهم من الرسالة شيء على أن المقصود بالتكليم الموجه إليه الخطاب هو موسى موسى عليه السلام دونهم وبتخصيص الناس بماعلمت خرج النبي صلى الله عليه وسلم فلا يرد أن مجموع الرسالة والتكليم بغير واسطة وجد له عليه الصلاة والسلام أيضاً على الصحيح، على علي إنا لو قلنا بأن التكليم بغير واسطة مخصوص به عليه السلام من بين الأنبياء صلى الله عليه وسلم لا يلزم منه تفضيله من كل الوجوه على غيره كنبينا عليه الصلاة والسلام فقد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل وإنما كان الكلام بلا واسطة سبباً للشرف بناء على العرف الظاهر وقد قالوا شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيباً وقربه إليه بلطفه تقريباً وبين من ضرب له الحجاب والحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب، على أن من ذاق طعم المحبة ولو بطرف اللسان يعلم مافي تكليم المحبوب بغير واسطة من اللطف العظيم والبر الجسيم، وكلامه جل شأنه لموسى عليه السلام في ذلك الميقات كثير على ما دلت عليه الآثار، وقد سبق لك ما يدل على كميته من حديث أبي هريرة‏.‏ وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والبيهقي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله تعالى شأنه ناجى موسى عليه السلام بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام فلما سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقع في مسامعه من كلام الرب عز وجل فكان فيما ناجاه أن قال‏:‏ يا موسى إنه لم يتصنع المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا ولم يتقرب إلى المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم ولم يتعبد المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي فقال موسى‏:‏ يا رب وإله البرية كلها ويا مالك يوم الدين ويا ذا الجلال والإكرام ماذا أعددت لهم وماذا جزيتهم‏؟‏ قال‏:‏ أما الزاهدون في الدنيا فإني أبيحهم جنتي حتى يتبوأوا فيها حيث شاءوا وأما الورعون عما حرمت عليهم فإذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعون فإنى أجلهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب، وأما الباكون من خشيتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لا يشاركهم فيه أحد»‏.‏

وأخرج آدم بن أبي إياس في كتاب العلم عن ابن مسعود قال‏:‏ لما قرب الله تعالى موسى نجياً أبصر في ظل العرض رجلاً فغبطه بمكانه فسأله عنه فلم يخبره باسمه وأخبره بعلمه فقال له‏:‏ هذا رجل كان لا يحسد الناس على ما أتاهم الله تعالى من فضله، براً بالوالدين، لا يمشي بالنميمة ثم قال الله تعالى‏:‏ يا موسى ما جئت تطلب‏؟‏ قال‏:‏ جئت أطلب الهدي يا رب‏.‏ قال‏:‏ قد وجدت يا موسى‏.‏ فقال‏:‏ رب اغفر لي ما مضى من ذنوبي وما غبر وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني وأعوذ بك من وسوسة نفسي وسوء عملي فقيل له‏:‏ قد كفيت يا موسى‏.‏ قال‏:‏ يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمله‏؟‏ قال‏:‏ اذكرني يا موسى‏.‏ قال رب‏:‏ أي عبادك أتقى‏؟‏ قال‏:‏ الذي يذكرني ولا ينساني‏.‏ قال رب‏:‏ أي عبادك أغنى‏؟‏ قال‏:‏ الذي يقنع بما يؤتى‏.‏ قال رب‏:‏ أي عبادك أفضل‏؟‏ قال‏:‏ الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى‏.‏ قال‏:‏ رب أي عبادك أعلم‏؟‏ قال‏:‏ الذي يطلب علم الناس إلى علمه لعله يسمع كلمة تدله على هدي أو ترده عن ردي‏.‏ قال‏:‏ رب أي عبادك أحب إليك عملاً‏؟‏ قال‏:‏ الذي لا يكذب لسانه، ولا يزني فرجه، ولا يفجر قلبه‏.‏ قال‏:‏ رب ثم أي على أثر هذا‏؟‏ قال‏:‏ قلب مؤمن في خلق حسن‏.‏ قال رب‏:‏ أي عبادك أبغض إليك‏؟‏ قال‏:‏ قلب كافر في خلق سيء‏.‏ قال‏:‏ رب ثم أي على أثر هذا‏؟‏ قال‏:‏ جيفة بالليل بطال بالنهار، وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات‏.‏ وأبو يعلى‏.‏ وابن حبان‏.‏ والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال موسى‏:‏ يا رب علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به‏؟‏ قال‏:‏ قل يا موسى لا إله إلا الله‏.‏ قال‏:‏ يا رب كل عبادك يقول هذا‏.‏ قال‏:‏ قل لا إله إلا الله‏.‏ قال‏:‏ لا إله إلا أنت يا رب‏.‏ إنما أريد شيئاً تخصني به‏.‏ قال‏:‏ يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله‏.‏

وأخرج الحيكم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة قال‏:‏ لما ارتقى موسى طور سينا رأى الجبار في أصبعه خاتماً فقال له‏:‏ هل مكتوب عليه شيء من أسمائي أو كلامي‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال فاكتب عليه ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن العلاء بن كثير قال‏:‏ إن الله تعالى قال‏:‏ يا موسى أتدري لم كلمتك‏؟‏ قال‏:‏ لا يا رب قال‏:‏ لأني لم أخلق خلقاً تواضع لي تواضعك‏.‏ وللقصاص أخبار كثيرة موضوعة في أسئلة موسى عليه السلام ربه وأجوبته جل شأنه له لا ينبغي لمسلم التصديق بها ‏{‏فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ‏}‏ أي أعطيتك من شرف الاصطفاء ‏{‏وَكُنْ مّنَ الشاكرين‏}‏ أي معدوداً في عدادهم بأن يكون لك مساهمة كاملة فيهم، وحاصله كن بليغ الشكر فإن ما أنعمت به عليك من أجل النعم‏.‏ أخرج ابن أبي شيبة عن كعب أنه قال قال موسى عليه السلام‏:‏ يا رب دلني على عمل إذا عملته كان شكراً لك فيما اصطنعت إلي، قال‏:‏ يا موسى قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‏.‏ قال‏:‏ فكان موسى أراد من العمل ما هو أنهك لجسمه مما أمر به فقال له‏:‏ يا موسى لو أن السموات البسع الخبر وهو في معنى ما في خبر أبي سعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالواح مِن كُلّ شَىْء‏}‏ يحتاجون إليه من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح على ما قال الرازي وغيره، وما أخرجه الطبراني‏.‏ والبيهقي في الدلائل عن محمد بن يزيد الثقفي قال‏:‏ اصطحب قيس بن خرشة وكعب الأحبار حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة ثم قال‏:‏ ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يهراق ببقعة من الأرض مثله فقال قيل‏:‏ ما يدريك فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله تعالى به‏؟‏ فقال كعب‏:‏ ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله تعالى على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة ظاهر في أن كل شيء أعم مما ذكر، ولعل ذكر ذلك من باب الرمز كما ندعيه في القرآن ‏{‏مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء‏}‏ بدل من الجار والمجرور، أي كتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام، وإلى هذا ذهب غير واحد من المعربين، وهو مشعر بأن ‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة لا تبعيضية، وفي زيادتها في الإثبات كلام، قيل‏:‏ ولم تجعل إبتدائية حالاً من موعظة وموعظة مفعول به لأنه ليس له كبير معنى، ولم تجعل موعظة مفعول له وإن استوفى شرائطه لأن الظاهر عطف تفصيلاً عن موعظة، وظاهر أنه لا معنى لقولك كتبنا له من كل شيء لتفصيل كل شيء، وأما جعله عطفاً على محل الجار والمجرور فبعيد من جهة اللفظ والمعنى‏.‏

والطيبي اختار هذا العطف وأن ‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية وموعظة وحدها بدل، والمعنى كتبنا بعض كل شيء في الألواح من نحو السور والآيات وغيرهما موعظة وكتبنا فيها تفصيل كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرا ونحو ذلك، وفي ذلك اختصاص الإجمال والتفصيل بالموعظة للإيذان بأن الاهتمام بهذا أشد والعناية بها أتم، ولكونها كذلك كثر مدح النبي صلى الله عليه وسلم بالبشير النذير، وإشعار بأن الموعظة مما يجب أن يرجع إليه في كل أمر يذكر به، ألا يرى إلى أن أكثر الفواصل التنزيلية والردود على هذا النمط نحو ‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 65‏]‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 80‏]‏ وإلى سورة الرحمن كيف أعيد فيها ما أعيد وذلك ليستأنف السامع به ادكاراً واتعاظاً ويجدد تنبيهاً واستيقاظاً، وأنت تعلم أن البعد الذي أشرنا إليه باق على حاله، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لّكُلّ شَىْء‏}‏ إما متعلق بما عنده أو بمحذوف كما قال السمين وقع صفة له، واختلف في عدد الألواح وفي جوهرها ومقدارها وكاتبها فقيل كانت عشرة ألواح، وقيل‏:‏ سبعة، وقيل‏:‏ لو حين، قال الزجاج‏:‏ ويجوز أن يقال في اللغة للوحين ألواح وأنها كانت من زمرد أخضر، أمر الرب تعالى جبريل عليه السلام فجاء بها من عدم، وروى ذلك عن مجاهد، وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريرج قال‏:‏ أخبرت أن الألواح كانت من زبرجد، وعن سعيد بن جبير قال‏:‏ كانوا يقولون إنها كانت من ياقوتة وأنا أقول‏:‏ إنها كانت من زمرد، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعاً» وعن الحسن أنها كانت من خشب نزلت من السماء، وأن طول كل عشرة أذرع، وقيل‏:‏ أمر الله تعالى موسى عليه السلام بقطعها من صخرة صماء لينها له فقطعها بيده وسقفها بأصابعه ولا يخفى أن أمثال هذا يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا فالسكوت أولى إذ ليس في الآية ما يدل عليه، والمختار عندي أنها من خشب السدر إن صح السند إلى سلسلة الذهب، والمشهور عن ابن جريج أن كاتبها جبريل عليه السلام كتبها بالقلم الذي كتب به الذكر، والمروي عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعطاء‏.‏ وعكرمة‏.‏ وخلق كثير أن الله تعالى كتبها بيده وجاء أنها كتبت وموسى عليه السلام يسمع صريف الأقلام التي كتبت بها وهو المأثور عن الأمير كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ خلق الله تعالى آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده، ثم قال لأشياء كوني فكانت، وأخرج عبد بن حميد عن وردان بن خالد قال‏:‏ خلق الله تعالى آدم بيده وخلق جبريل بيده وخلق القلم بيده وخلق عرشه بيده وكتب الكتاب الذي عنده لا يطلع عليه غيره بيده وكتب التوراة بيده وهذا كله من قبيل المتشابه، وفي بعض الآثار أنها كتبت قبل الميقات وأنزلت على ما قيل وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر موسى‏.‏ ويوشع وعزير‏.‏ وعيسى عليهم السلام‏.‏ ومما كتب فيها كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أمته وما ادخر لهم عنده وما يسر عليهم في دينهم وما وسع عليهم فيما أحل لهم حتى إنه جاء أن موسى عليه السلام عجب من الخير الذي أعطاه الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته وتمنى أن يكون منهم‏.‏

وأخرج ابن مردويه‏.‏ وأبو نعيم في الحلية وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ كان فيما أعطى الله تعالى موسى في الأرواح يا موسى لا تشرك بي شيئاً فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار، وأشكر لي ولوالديك أقك المتألف وأنسئك في عمرك وأحيك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها، ولا تقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق فتضيق عليه الأرض برحبها والسماء بأقطارها وتبوء بسخطي والنار، ولا تخلف باسمي كاذباً ولا آثماً فإني لا أطهر ولا أزكى من لم ينزهني ويعظم أسمائي، ولا تحسد الناس على ما أعطيتهم من فضلي ولا تنفس عليه نعمتي ورزقي فإن الحاسد عدو نعمتى راد لقضائي ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ومن يكون كذلك فلست منه وليس مني، ولا تشهد بما لم يع سمعك ويحفظ عقلك ويعقد قلبك فإني واقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة ثم سائلهم عنها سؤالاً حثيثاً، ولا تزن ولا تسرق، ولا تزن بحلية جارك فأحجب عنك وجهي وتغلق عنك أبواب السماء، وأحب للناس ما تحب لنفسك، ولا تذبحن لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما ذكر عليه اسمي وكان خالصاً لوجهي، وتفرغ لي يوم البست وفرغ لي نفسك وجميع أهل بيتك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تعالى جعل السبت لموسى عليه السلام عيداً، واختار لنا الجمعة فجعلها عيداً»

‏{‏فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ‏}‏ أي بجد وحزم قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والجملة على إضمار القول عطفاً على كتبنا وحذف القول كثير مطرد، والداعي لهذا التقدير كما قال العلامة الثاني رعاية المناسبة لكتبنا له لأنه جاء على الغيبة، ولو كان بدله كتبنا لك لم يحتج إلى تقدير، وأما حديث عطف الإنشاء على الأخبار فلا ضير فيه لأنه يجوز إذا كان بالفاء‏.‏

وقيل‏:‏ هو بدل من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏ وضعف بأن فيه الفصل بأجنبي وهو جملة كتبنا المعطوفة على جملة ‏{‏قَالَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏ وهو تفكيك للنظم والضمير المنصوب للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء والعموم لا يكفي في عود ضمير الجماعة بدون تأويله بالجمع، وجوز عوده للتوراة بقرينة السياق، والقائل بالبدلية جعله عاداً إلى الرسالات؛ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً من الفاعل أي ملتبساً بقوة، وجوز أن يكون حالاً من المفعول أي ملتبسة بقوة براهينها، والأول أوضح، وأن يكون صفة مفعول مطلق أي أخذاً بقوة‏.‏

‏{‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏}‏ أي أحسنها فالباء زائدة كما في قوله‏:‏

سود المحاجر لا يقر أن بالسور *** ويحتمل أن تكون بالباء أصلية وهو الظاهر، وحينئذ فهي إما متعلقة بيأخذوا بتضمينه معنى يعملوا أو هو من الأخذ بمعنى السيرة، ومنه أخذ أخذهم أي سار سيرتهم وتخلق بخلائقهم كما نقول وإما متعلقة بمحذوف وقع حالاً ومفعول يأخذوا محذوف أي أنفسهم كما قيل، والظاهر أنه مجزوم في جواب الأمر فيحتاج إلى تأويل لأنه لا يلزم من أمرهم أخذهم، أي إن تأمرهم ويوفقهم الله تعالى يأخذوا، وقيل‏:‏ بتقدير لام الأمر فيه بناء على جواز ذلك بعد أمر من القول أو ما هو بمعناه كما هنا، وإضافة أفعل التفضيل هنا عند غير واحد كإضافته في زيد أحسن الناس وهي على المشهور محضة على معنى اللام، وقيل‏:‏ إنها لفظية ويوهم صنيع بعضهم أنها على معنى في وليس به؛ والمعنى بأحسن الأجزاء التي فيها، ومعنى أحسنيتها اشتمالها على الأحسن كالصبر فإنه أحسن بالإضافة إلى الانتصار، أي مرهم يأخذوا بذلك على طريق الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى‏:‏

‏{‏واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 55‏]‏ أو المعنى بأحسن أحكامها والمراد به الواجبات فإنها أحسن من المندوبات والمباحات أو حي والمندوبات على ما قيل فإنها أحسن من المباحات‏.‏

وقيل‏:‏ إن الأحسن بمعنى البالغ في الحسن مطلقاً لا بالإضافة وهو المأمور به ومقابله المنهي عنه، وإلى هذا يشير كلام الزجاج حيث قال‏:‏ أمروا بالخير ونهوا عن الشر وعرفوا ما لهم وما عليهم فقيل‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ‏}‏ الخ فافعل نظيره في قولهم‏:‏ الصيف أحر من الشتاء فإنه بمعنى الصيف في حره أبلغ من الشتاء في برده إذ تفضيل حرارة الصيف على حرارة الشتاء غير مرادة بلا شبهة ويقال هنا‏:‏ المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح‏.‏

وتفصيل ما في المقام على ما ذكره الدماميني في تعليقه على المصابيح ونقله عنه الشهاب أن لأفعل أربع حالات‏.‏ إحداها‏:‏ وهي الحالة الأصلية أن يدل على ثلاثة أمور‏:‏ الأول‏:‏ اتصاف من هو له بالحدث الذي اشتق منه وبهذا كان وصفاً، الثاني‏:‏ مشاركة مصحوبة في تلك الصفة، الثالث‏:‏ مزية موصوفة على مصحوبة فيها، وبكل من هذين الأمرين فارق غيره من الصفات، وثانيتها‏:‏ أن يخلع عنه ما امتاز به من الصفات ويتجرد للمعنى الوصفي، وثالثتها‏:‏ أن تبقى عليه معانيه الثلاثة ولكن يخلع عنه قد المعنى الثاني ويخلفه قيد آخر، وذلك أن المعنى الثاني وهو الاشتراك كان مقداً بتلك الصفة التي هي المعنى الأول فيصير مقيداً بالزيادة التي هي المعنى الثالث، ألا ترى أن المعنى في قولهم العسل أحلى من الخل أن للعسل حلاوة وأن تلك الحلاوة ذات زيادة وأن زيادة حلاوة العسل أكثر من زيادة حموضة الخل، وقد قال ذلك ابن هشام في حواشي التسهيل وهو بديع جداً، ورابعتها‏:‏ أن يخلع عنه المعنى الثاني وهو المشاركة وقيد المعنى الثالث وهو كون الزيادة على مصاحبه فيكون للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى زيادة مطلقة لا مقيدة وذلك في نحو يوسف أحسن إخوته انتهى‏.‏ وعدم اشتراك المأمور به والمنهي عنه في الحسن المراد مما لا شبهة فيه وإن كان الحسن مطلقاً كما في «البحر» مشتركاً فإن المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه والمنهي عنه حسن باعتبار الملاذ والشهوة‏.‏ وقال قطرب كما نقله عنه محيي السنة‏:‏ المعنى يأخذوا بحسنها وكلها حسن، وهو ظاهر في حمل أفعل على الحالة الثانية، وقيل‏:‏ المعنى يأخذوا بها وأحسن صلة وليس له من القبول عائد‏.‏

وقال الجبائي‏:‏ المراد يأخذوا بالناسخ دون المنسوخ، وقيل‏:‏ الأخذ بالأحسن هو أن تحمل الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها للصواب، ولا ينبغي أن يحمل الأخذ على الشروع كما في قولك أخذ زيد يتكلم أي شرع في الكلام، والأحسن على العقائد فيكون المراد أمرهم ليشرعوا بالتحلي بالعقائد الحقة وهي لكونها أصول الدين وموقوفة عليها صحة الأعمال أحسن من غيرها من الفروع وهو متضمن لأمرهم بجميع ما فيها كما لا يخفى فإن أخذ بالمعنى المعنى من أفعال الشروع ليس هذا استعمالها المعهود في كلامهم على أن فيه بعد ما فيه، ومثل هذا كون ضمير أحسنها عائداً إلى قوة على معنى مرهم يأخذوها بأحسن قوة وعزيمة فكون أمراً منه سبحانه أن يأمرهم بأخذها كما أمره به ربه سبحانه إلا أنه تعالى اكتفى في أمره عن ذكر الأحسن بما أشار إليه التنوين فإن ذلك خلاف المأثور المنساق إلى الفهم مع أنا لم نجد في كلامهم أحسن قوة ومفعول يأخذوا عليه محذوف كما في بعض الاحتمالات السابقة غير أنه فرق ظاهر بين ما هنا وما هناك‏.‏

‏{‏سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين‏}‏ توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والترهيب بناءً على ما روي عن قتادة‏.‏ وعطية العوفي من أن المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه بمصر ورأى بصرية، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثالث محذوف أي سأريكم إياها خاوية على عروشها لتعتبروا وتجدوا ولا تهاونوا في امتثال الأمر ولا تعملوا أعمال أهلها ليحل بكم ما حل بهم، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وحسن موقعه قصد المبالغة في الحث وفي وضع الإراءة موضع الاعتبار إقامة السبب مقام المسبب مبالغة أيضاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الارض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 69‏]‏ وفي وضع دار الفاسقين موضع أرض مصر الإشعار بالعلية والتنبيه على أن يحترزوا ولا يستنوا بسنتهم من الفسق، والسين للاستقبال لأن ذلك قبل الرجوع إلى مصر كما في «الكشف»‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ المراد بدار الفاسقين منازل عاد وثمود والقرون الذين هلكوا، وعن الحسن‏.‏ وعطاء أن المراد بها جهنم، وأياً ما كان فالكلام على النهج الأول أيضاً، ويجوز أن يكون على نهج الوعد والترغيب بناءً على ما روي عن قتادة أيضاً من أن المراد بدار الفاسقين أرض الجبابرة والعمالقة بالشام فإنها مما أبيح لبني إسرائيل وكتب لهم حسبما ينطق به قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏ ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الإيراث، ويؤيده قراءة بعضهم ‏{‏سأورثكم‏}‏، وجوز على هذا أن يراد بالدار مصر، وفي الكلام على هذه القراءة وإرادة أرض مصر من الدار تغليب لأن المعنى سأورثك وقومك أرض مصر، ولا يصح ذلك عليها إذا أريد من الدار أرض الجبابرة بناءً على أن موسى عليه السلام لم يدخلها وإنما دخلها يوشع مع القوم بعد وفاته عليه السلام، ويصح بناءً على القول بأن موسى عليه السلام دخلها ويوشع على مقدمته، وجوز اعتبار التغليب على القراءة المشهورة أيضاً، وقرأ الحسن ‏{‏عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ‏}‏ بضم الهمزة وواو ساكنة وراء خفيفة مكسورة وهي لغة فاشية في الحجاز، والمعنى سأبين لكم ذلك وأنوره على أنه من أوريت الزند، واختار ابن جني في تخريج هذه القراءة ولعله الأظهر أنها على الإشباع كقوله‏:‏

من حيثما سلكوا أدنو فأنظور‏.‏‏.‏‏.‏